تلهث الدول سعياً نحو مستقبل أكثر ذكاءً، ولكن مع فاتورة تصبح أثقل يوماً تلو الآخر. أزمة عالمية جديدة ندخل ضمن متاهاتها المتشعّبة، ربما لم يسمع الكثيرون عنها، ولكن من المؤكّد أن الجميع يشعرون بظلالها على حياتهم اليومية.
أزمة نقص أشباه الموصلات أو ما يُعرف بـ"Semiconductor"، وضعت كبريات الشركات العالمية في مأزق حرج لمعالجة الاضطراب الواضح بين ارتفاع الطلب المهول ومحدودية العرض، لتجد هذه الشركات نفسها بين مطرقة كورونا وسندان الحرب الاقتصادية الأميركية الصينية.
ما هي الشريحة العجيبة؟
قد تقف مذهولاً عند معرفة أن هذه الشريحة تدخل صلب حياتك اليومية، وأن اختفاءها سيعيدك عشرات السنين إلى الوراء، حيث تعدّ الشريحة أو أشباه الموصلات مكوّناً مهماً يعمل على تشغيل مجموعة كاملة من العناصر الإلكترونية من الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر والسيارات إلى الغسالات والثلاجات وحتى فراشي الأسنان الكهربائية. وبصراحة، الأمر يصل إلى أبعد من ذلك بكثير، فهذه الشرائح تشعل حالياً حرباً جديدة ضمن سلسلة المعارك المستمرة بين أميركا والصين للسيطرة على العالم، فلا مقاتلات حربية ولا حاملات طائرات عسكرية من دون هذه الشرائح، فلك أن تتخيّل أو ترسم توقعاتك لهذا الفصل الجديد من التناحر الأميركي الصيني.
خريطة التصنيع
تحتاج ولادة الشريحة الواحدة إلى 9 أشهر بين مرحلتي تصميم وتصنيع، تتخللها تعقيدات جمّة بين غرف تفوق غرف العمليات البشرية تعقيماً، وبين إضاءة مخصّصة ومياه وفيرة لتبريد الأجهزة.
تعدّ تايوان الدولة الأولى عالمياً في صناعة الشرائح، وحصّتها في السوق وصلت عام 2020 إلى 63%، وهي تمتلك أكبر شركة لصناعة الرقائق عالمياً، وهي TSMC، تأتي بعدها كوريا الجنوبية بـ18% لصالح شركة سامسونغ، في حين تبلغ حصة الصين من السوق العالمية 6% فقط.
في عام 2020 بلغت مبيعات أشباه الموصلات 432 مليار دولار، وحالياً يوجد أكثر من 100 مليار رقاقة يجري استخدامها بشكل يومي، وهو رقم كبير جداً مقارنة بعدد سكان العالم الذي يبلغ 8 مليارات نسمة.
تعقيدات الإنتاج والتكلفة الباهظة لإنشاء مصنع، والتي تصل إلى 15 مليار دولار، أدّت إلى نقص المعامل المختصة بإنتاج هذا النوع من الصناعات. وما زاد الطين بلّة جائحة كورونا التي حملت معها خسائر بمئات المليارات، وانخفاضاً في الإنتاج وارتفاعاً في الأسعار، حيث إن شركة تويوتا، أكبر منتج للسيارات في العالم، خفّضت إنتاجها بنسبة 40%، وكذلك بنسب مختلفة فعلت مثيلاتها فولسفاغن ورينو ونيسان وجنرال موتورز، وليس فقط قطاع السيارات بل أيضاً الأجهزة الإلكترونية، كأجهزة الحاسوب والهواتف الذكية التي ستشهد انخفاضاً في كميّاتها، وسيعاني المستهلك من ارتفاع في أسعارها.
أميركا في هذه المعمعة تعتبر أكبر مستهلك للرقائق في العالم بنسبة 42%، ما دفع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المناداة بخطة تبلغ قيمتها 50 مليار دولار لتنمية وبناء مصانع لإنتاج الرقائق، في حين تسعى الصين للسيطرة على سلاسل إمداد أشباه الموصلات.
معركة جديدة تضاف إلى قائمة الحروب بين الولايات المتحدة والصين، وآراء متناقضة حول الوقت اللازم لتجاوز هذه الأزمة والعودة إلى التوازن المطلوب.
تباين العرض والطلب
لا يمكن لأحد نكران حالة الاستقرار التي حقّقتها المصانع الموجودة حالياً، والمعنية بإنتاج هذا النوع من الصناعات، ولكنَّ الزائر الثقيل الذي أرهب العالم بداية عام 2020، سبّب عمليات إغلاق واسعة، أجبرت مرافق صنع الرقائق في جميع أنحاء العالم على الإغلاق أيضاً.
مع تزايد عدد الأشخاص الذين بدأوا العمل من المنزل، أدّى الطلب المتزايد على الإلكترونيات إلى إغراق سلسلة التوريد، وكافح المصنّعون لإنشاء رقائق كافية لتلبية الطلب المتزايد، ولكن الطلب المتراكم بدأ بتشكيل فجوته، واستمر الأمر في الاتساع، مع إغلاق الموانئ، لعدة أشهر أحياناً، ما شكل عاملاً إضافياً في تردّي الأوضاع، وحتى بعد إعادة فتح الموانئ استمرت المشكلة، لأن العديد من أجزاء سلسلة التوريد للنقل ليست لديه القدرة على التعامل مع الازدحام في الموانئ. ووفقاً لبحث أجرته مجموعة Susquehanna Financial Group، فإن المهلة الزمنية - الفجوة بين طلب أشباه الموصلات وتسليمها - زادت من أربعة أيام إلى 22.3 أسبوعاً في الشهر الماضي مقارنة بشهر تشرين الأول/ أكتوبر.
حتى في مواجهة ارتفاع الطلب، لا يمكن تعزيز التصنيع في غضون مهلة قصيرة، حيث إن ذلك صعب، ويستغرق وقتاً طويلاً إنشاء مسابك الرقائق. وأعلنت شركات مثل إنتل وسامسونغ وشركة تايوان TSMC جميعها عن إنشاء مصانع جديدة لتصنيع الرقائق على مدار الأشهر القليلة الماضية، لكن تصنيع هذه الوحدات يستغرق سنوات.
انفراج الاختناق العالمي
بين وجهات نظر متفائلة بانحسار أزمة سلاسل التوريد خلال العام المقبل 2022 تعود البلبلة إلى الظهور مجدّداً، مع انتشار فيروس أوميكرون الذي دفع بعض البلدان الأوروبية إلى إغلاقٍ عامٍّ جديدٍ وطارئ، ما جعل المتوسّمين خيراً يعيدون التفكير مجدداً في الموعد المتوقّع لانفراج هذه الأزمة التي إن طالت فستؤدي إلى نتائج وخيمة على الاقتصاد العالمي ومسيرة التطور التكنولوجي المتسارعة.
على الجانب الآخر، يرى محلّلون عديدون أن الحلَّ لهذه الأزمة لن يكون بين ليلة وضحاها، بل يحتاج إلى وقت طويل، مع الأخذ بعين الاعتبار ما سبّبه فيروس كورونا من تعطّل أو تأخير في عمليات الشحن والتوريد، وكذلك الاضطراب الذي طال عمليات التصنيع والطلب، وهذا ينبئ بأن عام 2022 لن يكون عاماً للحلول، بل فترة للتركيز على إعادة بناء المرونة في سلاسل التوريد، وخاصة الشحن البحري.